لقد جاءت العلوم الإنسانية متأخرة النشأة قياسا بالعلوم الدقيقة، كما جاءت تلك النشأة، كنتيجة لما بدأت المجتمعات الحديثة تعرفه من قضايا نفسية واجتماعية جديدة ارتبطت بتطورها السريع.. هكذا أصبحت هذه العلوم تسعى إلى تحويل الإنسان إلى ظاهرة قابلة للدراسة العلمية الموضوعية. إلا أن تميز الإنسان واختلافه عن الظواهر الطبيعة جعل العلوم الإنسانية تعرف مشاكل إبيستيمولوجية من نوع خاص، ومن ثم بدأ العلماء يتساءلون حول مدى قدرة هذه العلوم على بلوغ دقة العلوم الطبيعية. لذا بدأ التحليل الإبيستيمولوجي يحاول المساهمة في حل القضايا ومعالجة الإشكاليات خصوصا منها تلك التي تربط بالمنهاج.. وحتى نتمكن من الوقوف على بعض الإشكاليات المرتبطة بالعلوم الإنسانية، سنحاول الاهتداء بالتساؤلات التالية: هل الظاهرة الإنسانية قابلة للدراسة العلمية الموضوعية؟ ما هي قدرة العلوم الإنسانية على فهم وتفسير الظواهر الإنسانية؟ هل يجب أن تؤسس العلوم الإنسانية نفسها ضرورة على نموذج العلوم الطبيعية؟
1. موضعة الظاهرة الإنسانية
يعتقد جان بياجي P. Piaget أن إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية جد معقدة نظرا لطبيعة العلاقة التي تربط الذات بالموضوع. فالذات التي تجرب على نفسها وعلى الغير تتغير نتيجة لما لاحظته، وما قامت بتجربته، كما تعمل على التأثير فيما تدرسه وتغير من مجراه ومن طبيعته. وهذا نموذج من الإشكاليات لا تعرفه العلوم الطبيعية، ففي هذه العلوم يستطيع العالم أن يميز نفسه عن الظاهرة المدروسة. أما في العلوم الإنسانية فإن إشكالية العلمية تظل قائمة لاعتبارين هما:
انطلاقا مما سبق يتبين أن إشكالية العلمية في العلوم الإنسانية تتحدد أساسا في التداخل بين الذات والموضوع الذي يشكل عائقا مركزيا يحول دون قدرة هذه العلوم على موضعة الظاهرة الإنسانية بشكل دقيق، الأمر الذي يسمح لجان بياجي بالتأكيد أن الباحثين في العلوم الإنسانية ينطلقون من خلفيات فلسفية وأيديولوجية.
وفي المقابل، يحاول فرانسوا باستيان F. Bastian أن يقلل من أهمية التداخل بين الذات والموضوع في العلوم الإنسانية، حيث يبين أن طبيعة الظاهرة المدروسة تحتم انخراط العالم في مجتمعه، ومن ثم يتبين أن الانفصال الذات والموضوع أمرا غير قائم حتى لو أراد العالم ذلك.. إن هذا ما يفسر، في اعتقاد باستيان، لماذا ركز رواد العلوم الاجتماعية على ضرورة تحقيق هذا التباعد وبالتالي أهمية اتخاذ مسافة بين العالم والمجتمع. هكذا دعى دوركايم Durkheim، مثلا، إلى ضرورة اعتبار "الظواهر الاجتماعية بمثابة أشياء"، كما أكد ماكس فييبر M. Weber على ضرور التمييز في المنظومة القيمية بين ما هو محلي وما هو كوني..
مما تقدم يتبين أن إشكالية موضعة الظاهرة الإنسانية، إشكالية إبيستيمولوجية، تتمركز أساسا حول التداخل الموجود بين الذات والموضوع، الأمر الذي ينفتح على التساؤل حول نوعية الوظائف العلمية التي تضطلع بها هذه العلوم الإنسانية، وما هي قدرتها على فهم الظواهر وتفسيرها؟