إن قراءة سريعة في الاستعمالات المتداولة لمفهوم الدولة تبين أن هذا المفهوم يكتسي معان متغايرة، حيث يظهر تارة في صورة الحكومة وتارة أخرى يأتي بمعنى النظام، كما يشار به أحيلنا إلى المؤسسات العمومية..إلخ. في حين أن مفهوم الدولة يشير إلى كل كيان سياسي يبسط نفوذه وسيادته على رقعة جغرافية معينة، ويفترض في سكانه أن يشعروا تجاهه بالمواطنة والانتماء. إن الدولة كيان لا يمكن أن نتمثل أبعاده دون إثارة مفاهيم مثل السيادة، والسلطة، والحق، والقانون، والحرية. وذلك ما يبين أن إثارة مفهوم الدولة هو في الواقع محاولة لإثارة تساؤلات متداخلة من قبيل مايلي: مم تستمد الدولة شرعيتها وفيم تتحدد غاياتها؟ ما هي طبيعة السلطة السياسية التي تمارسها الدولة؟ هل السلطة التي تمارسها الدولة مستمدة من القانون أم من القوة والعنف؟
1. مشروعية الدولة وغاياتها
يعتقد سبينوزا أن غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة. بل إن على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكنهم من استخدام عقولهم والعمل على تنميتها. ومن ثم يؤكد الفيلسوف أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة. إلا أن ذلك، لا يعني التصرف المطلق بطريقة فيها إيذاء للغير، خصوصا وأن من الناس من فطر على استعمال الشهوة، ومن المعلوم أيضا أن الجميع ميال إلى الاعتقاد أنه دائما على صواب.
هكذا دعى سبينوزا إلى الاحتكام إلى العقل والابتعاد عن الحقد والغضب والخداع. ومن ثمة، كان لابد أن يدرك الأفراد أن تقنين الحرية الفردية ضرورة حتمية وحصرها في حرية التفكير والتعبير وإصدار الأحكام، دون أن يكون في نية الفرد تغيير الأشياء لأن الدولة وحدها تملك سلطة اتخاذ القرار.
أما هيغل، فيحذر من الخلط بين الدولة والمجتمع المدني، لأنه يعتقد بأن هناك غايات تتجاوز الدولة نفسها، وتتمثل في تحقيق أبعاد كونية. هكذا يتصور الفيلسوف أن العلاقة بين الإرادة الفردية والإرادة الجماعية في تفاعل جدلي، لتصبحا إرادة مشتركة تترجم الدولة من خلالها تعاقدا بين الأفراد. وبما أن هيغل يؤمن بأن أصل الوجود هو الفكرة المطلقة، فإنه يعتقد بأن وجود الإنسان يتحدد أساسا في العمل على أن يرجع الوجود إلى أصله. هكذا يكون مصير الإنسانية مرتبطا ومتلاحما في تحقيق ما هو كوني، لأنه لا يوجد إلا روح واحد ومبدأ واحد يعبر عن نفسه في جميع منجزات الإنسان.
إن التقابل الموجود بين تمثل كل من هيغل وسبينوزا حول شرعية الدولة وغاياتها يدفع إلى طرح السؤال التالي: ما هي نوعية السلطة السياسية التي تمارسها الدولة؟
2. طبيعة السلطة السياسية
يرى ماكيافيلي Machiavel أن التجارب اليومية تؤكد أنه على الرغم من مدح الناس للأمير العادل، فإن عظمة الحكام ترجع إلى استعمالهم لأساليب المكر والخداع. ومن ثم ينصح هذا المفكر كل أمير بضرورة الجمع بين القانون واستعمال القوة والعنف، فلا حكم إلا لمن يستطيع الجمع بين القوة، والمكر، والخداع. فعلى الحاكم بالتالي أن يكون قادرا على خيانة الأمانة ونقض العهود، خاصة عندما لا يخدم الوفاء مصلحته أو عندما تنتهي أسباب ودواعي إقامة تلك العهود. فرعاية الأمانة أمر لا يستقيم إلا مع رعية مكونة من الأخيار، وبما أن ذلك ليس هو حال الناس فلا مناص من لجوء الحاكم إلى ما سبق ذكره. بل إن ماكيافيلي، ينصح الحاكم (الأمير) بأن يجيد أساليب التمويه والخداع حتى لا يفتضح أمره، خصوصا وأن سذاجة الرعية تجعلهم ينقادون بسهولة نحو الانخداع...
وفي مقابل ذلك، يرى ابن خلدون أن السلطة السياسية يجب أن تتأسس على الاعتدال، والرفق بالرعية. فهذه الأخيرة لا يهمها من الحاكم لا صفاته الجسمية ولا قدراته العقلية. إن الرعية تهتم فقط بما يمكن أن يلمسوه من تأثير الحكم على حياتهم: فإذا تأسس الحكم على الاستبداد والتربص بالرعية، فعلى الحاكم أن يتوقع خذلان رعيته عند حاجته إليها. وفي المقابل، إذا كان حليما، وعطوفا، تناسوا سيئاته وأحبوه.
أما ألان تورين A. Touraine فيعتقد أن السلطة السياسية ترتبط عضويا بقوة النظام الديمقراطي. هكذا يؤمن بأن قوة الديمقراطية رهينة باحترام الحقوق المدنية والاجتماعية. فالديمقراطية هي النظام السياسي الوحيد الذي يسمح بتشكل الفاعلين الاجتماعيين، ويتيح لهم فرص المشاركة الحرة. ذلك ليبين أن هدف الديمقراطية لم يعد يتمثل في مواجهة نمط جديد من الممارسات التي تتبنى الحداثة، وتحتمي بالشعب، لكنها لا تتيح للناس أي فرص للمبادرة الحرة. لذا أصبحت الديمقراطية مضطرة لمحاربة الأنظمة العسكرية الاستبدادية، علاوة على محاربة الأحزاب الكليانية. خصوصا وأن هناك من يستغل مفاهيم الديمقراطية، إما لخلق أنظمة استبدادية أو للعمل على استنبات ممارسات اقتصادية فردانية تقوم على اقتصاد السوق وتدفع نحو تعفن الدولة... ليستنتج ألان تورين، أن أساسيات النظام الديمقراطي تتمثل في الاعتراف بالحقوق الاجتماعية، وشرعية القيادات، والشعور بالمواطنة.. إن المقارنة بين التمثلات السابقة نبين أن بعضها يدعو إلى المحافظة على كرامة الإنسان بينما يدعو البعض الآخر إلى غياب الأخلاق في الممارسة السياسية. وكيفما كان الحال فلا يمكن لأي أحد أن ينكر أن جميع الدول تضطر إلى اللجوء إلى أشكال من الزجر والإكراهات المادية والبدنية، وذلك ما يسمح لنا بالتساؤل حول علاقة الدولة بالعنف. ومن ثم التساؤل: إلى أي حد نستطيع أن نسمي تلك الإكراهات عنفا؟